في رحلة الحياة تحدث للمرء منا مواقف شتى يقف إزاءها موقف الحائر، وربما تسائل في حيرة عن التصرف الأمثل الذي يحفظ له هناءه النفسي، وحقوقه في نفس الوقت .
من جملة هذه المواقف أن يعتدي أحد على قيم الواحد منا ومعتقداته .
مثلا .. إذا تجرأ حاقد أو مخالف أو طالب شهرة على عقيدتي كمسلم، ومبادئي الدينية، وراح يسفه في رموزي التي تربيت على احترامها وتبجيلها، فما التصرف الأمثل لي آنذاك ..!؟
أأرد ردا عنيفا قويا .. ؟
أم أصمت .. كي لا أزيد من عبث وضوضاء هذا الأحمق المفتون ..؟!
متى يكون كلامي مطلوبا، ومتى يكون صمتي غنيمة ..؟؟
هذه من المسائل التي تُختبر فيها حكمة وحنكة المرء منا، بل ربما حكمة ووعي الشعوب والأمم .
فكم من أمة أضاعت حقها بسبب ردة فعلها الغير منضبطة ..
في الحقيقة ما دعاني للتفكير في هذا الأمر كثرة الحروب التي تُشن على ثوابتي الدينية، ورموزي الإسلامية، ومبادئي التي أحبها وأنافح عنها .
أشعر بألم حينما أرى صغير القامة يتعدى بألفاظه على النبي صلى الله عليه وسلم بحجة حرية التفكير، أو يسفه رمزا تاريخيا أو حتى معاصرا بحجة أن لا أحد يعلوا فوق ميزان النقد .
وأتساءل .. هل أرد عليه أم أغض طرفي ..؟
هل ردي سيوقفه عند حده، أم أني سأحقق له مراده، وأرفع ـ بنقدي ـ من مستوى قامته التي لا تُرى بالعين المجردة ؟؟!.
خاصة وأنا أرى كثر من المفتونين يلتمسون طريق الشهرة من الباب الأقرب والأسهل ـ من وجهة نظرهم ـ وهو التهجم على الدين والثوابت .. لكنهم ـ يا لغفلتهم ـ لا يدركون أنها بوابة الجحيم، ما تلبث إن آجلا أو عاجلا إلا وتحرقهم، فلا تترك لهم منفذا يهربون إليه .
أعود لسؤالي الأول .. متى أصمت ومتى أرد ..؟
وتأتيني الإجابة من كلام ربنا جل وعلى إذ يقول سبحانه في سورة الأنعام : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم. كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) .
هنا الله سبحانه وتعالى يحذرنا من مهاجمة الجهلاء، خاصة إذا كان كلامهم من جملة الثرثرة الفارغة، التي ليس لها وزن علمي أو أدبي .
وأنا أدعي هنا أنه لولا فتوى إهدار دم سلمان رشدي التي أطلقها الخميني ما سمع أحد بهذا الرجل أو كتابه، لكنها ردة الفعل الغير منضبطة، والتي أعطته مالم يحلم به من الشهرة والصيت وفوق هذا ألبسته ثوب المناضل الحر .
أيضا ردة فعل بعض دول العالم الإسلامي على الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإحراق السفارات وترويع المدنيين، أعطت لذلك الرسام المغمور شهرة كبيرة، ما كان ليطالها لو اكتفينا بالتحرك الرسمي الحازم دون ردة الفعل العاطفية الشديدة .
هذه الآية الكريمة تعلمنا أن الحوار مع الجهلاء يحتاج إلى صبر وطول نفس وهدوء كبيرين، وأنه ليس كل من يكتب كلمة يسب بها قيمي ومعتقداتي بل و ( رب الكون) جل اسمه، يستحق أن نرد عليه .
موقف بليغ الآخر أأمل منكم أن تشاهدوه معي، ففي غزوة أحد التي مني فيها المسلمون بجراح مؤلمة، فقد قتل مجموعة كبيرة من عظماء المسلمين، ومُثل بحمزة سيد الشهداء، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضررا جسديا بالغا، وغاب عن المسلمين نصرا كانوا قاب قوسين أو أدني من الحصول عليه .
في هذه اللحظة الحرجة .. المؤلمة .. الصعبة .. حدثت مواجهة لفظية بين المعسكرين ..
فقد وصل إلى أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر قد قتلا في المعركة وأراد أن يتحقق من الخبر، فوقف أعلى الجبل ونادى في المسلمين قائلا : أفيكم محمد ؟.
هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجيبوه !.
فعاد أبو سفيان يسأل : أفيكم أبو بكر ..؟
فكرر النبي أوامره : لا تجيبوه !.
فعاد يسأل ثالثة : أفيكم عمر ..؟
فكرر النبي ِأيضا : لا تجيبوه !.
هنا بلغ بأبي سفيان الفرح مبلغا كبيرا، وصرخ قائلا : أعلوا هبل ..
هنا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا : أفلا تجيبوه ..!!
هنا تعجب الصحابة من النبي، وردوا عليه متسائلين : و بما يا رسول الله ؟.
فقال صلوات ربي عليه : قولوا الله أعلى و أجل .
ففوجئ أبو سفيان بصوت يأتيه من جهة المسلمين التي ظن أنها قد انتهت تقول : الله أعلى و أجل .
فرد قائلا : لنا العزه ولا عزه لكم ..
فقال النبي لأصحابه : ألا تجيبوه .. قولوا الله مولانا ولا مولى لكم .
فأحب أبي سفيان أن ينال نصرا كلاميا موهوما فقال : يوم بيوم بدر .
فقال النبي لأصحابه : أفلا تجيبوه، فقالوا بما ؟ قال : قولوا له لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار ..
أنظروا معي أصدقائي ففي هذا الموقف مجموعة دروس نبوية هامة ..
أما الأول فإن الانتصار للنفس لا يوضع في أولويات أصحاب الهمم العالية، فلقد أمرهم النبي بالصمت وعدم الرد عندما تهجم أبي سفيان على أشخاصهم، لكنه أمرهم بالرد حينما طال التهجم القيمة التي يتم الدفاع والقتال من أجلها .
الفائدة الثانية ـ وهي موضوع حديثنا ـ أن رده كان بليغا ومدروسا ويحمل رسالة، وهي أن الغاية التي نقاتل من أجلها لا زالت حية وقوية في وجداننا رغم الجراح والألم الذي لحق بنا .
ومن هنا أعزائي نتعلم، أن الرد يجب أن يكون قويا حينما تكون الفائدة المرجوة منه كبيرة .
نعم .. يجب أن نكتسح من يهاجمنا اكتساحا مدروسا ومنظما، كي نزيل غبار العبث من على وجه الحقيقة الناصعة .
تماما كما فعلها الرائع مصطفى صادق الرافعي مع طه حسين على صفحات مجلة الرسالة، فأنار ببرهانه ظلام وادعاءات طه حسين، وسطر أروع ملاحمه والتي دونها في كتابه المعنون بـ ( تحت راية القرآن ) .
وكما فعلها الشيخ محمد الغزالي في وجه الزحف الشيوعي الأحمر، والهيمنة العلمانية في كتبه ودروسه ومقالاته .
ردود قوية بليغة رائعة، انتصر فيها للعقيدة وصدح بآذان الحقيقة في أذن المفتونين، وسطر بروحه وفكره أروع الملاحم .
وبما أن مثل هؤلاء الخصوم الكبار ليسوا بيننا كي نتحفز للرد القوي، فلقد قررت ألا أرد على صغار الهامة .. وأدعوكم يا أصدقائي ألا تحرككم العاطفة نحو الرد على هذا أو العدوان على ذاك .
دعوهم في طغيانهم يعمهون ..
فقط نحارب ونقاتل ونقتحم بفكرنا وعقولنا معركة الرد حينما نواجه من يستحق الرد .
وقبل هذا هناك ما هو أهم وأبلغ من الردود .. وهو أن نقطع أمام الجميع طريق التهجم من خلال إيماننا العميق بعقيدتنا وديننا، وبذل الجهد الكبير في سبيل ترسيخها في نفوسنا ونفوس من حولنا .
ولي في هذه النقطة كلام .. فإلى أن ألقاكم ـ إن كتب الله لي عمرا ـ سلام ..